الثلاثاء، 1 مايو 2012

القوارب الورقية

كانت أوراق الخريف تتساقط حولها والنسمات تداعب خدها وكانت تسير بخطى واثقة وقلب مرتبك نحو مكان واحد: حيث هو, وفي ذهنها هدف واضح: أن تراه... تراه ولو للحظة واحدة فلحظة واحدة كانت كافية لإسعادها لأيام!

وصلت مبكرة كعادتها فاستندت إلى حائط اعترضها بلا مبالاة اصطنعتها تحسُّبًا للعيون الفضولية فلم يكن يُفْترض بها أن تكون هناك ولكنها هناك لأجله هو فقط... لأجل العيون العسلية الناعسة والنبرة الهادئة الخاملة... انتظرته لحظات طويلة كما بدأت تتعود على انتظاره واشتاقت إليه وناجته في سرها إلى أن ظهر متعجلا كعادته يداري تأخرا أصبح من شيمه فهو يأتي متأخرا دائما تاركا لها متعة انتظاره! 
التقت عيناهما في نظرة سعيدة وكأنه كان يتوقع حضورها أو يتمنى رؤيتها... توجه إليها مباشرة وكأنما كان بينهما موعد مسبق, وكأنه هو من كان ينتظرها, ودعاها بثقة إلى فنجان شاي! لم تصدق أذنيها فالدعوة على بساطتها كانت أجمل من أن تتوقعها... ارتشفا معا فنجاني الشاي وسألها ماذا تفعل في ذلك المكان فأجابته بجرأة عجيبة أنها جاءت لتراه ولم يبد متفاجئا من إجابتها وكأنه كان يعلم كل شيء عنها: يقرؤ أفكارها, يسمع دقات قلبها, يتابع اتجاه نظراتها, يعرف إلى أين تحملها خطواتها!... لأول مرة في حياتها تختبر معنى أن تكون الحقيقة أجمل من الخيال فقد كان ما حدث بينهما يومها أجمل من أن تتخيله وكان هو أروع من أي صورة رسمتها له في ذهنها, كان ألطف من النسيم وأجمل من شمس الأصيل! في كلامه غموض خفيف ومحبب وفي نظراته شوق لا يتعب...

دعاها إلى جولة قصيرة وحدثها عن نفسه كما يتحدث إلى صديق قديم عرفه دائما وفرقتهما الحياة ثم التقيا فجأة فأخذ يحدثه عما استجد في حياته! لم تكن تعرف عنه شيئا سوى اسمه ولم يكن يعرف عنها شيئا سوى ابتسامة واسعة أحبها وسعى ليعرفها ويفهم كنهها... ومع ذلك كان بينهما في تلك الأمسية الدافئة تواطؤ عجيب جعله يضرب معها موعدا آخر قبلت الذهاب إليه فورا!

كان أجمل ما في الأمر انها ستملؤ فراغ حياتها بقصة حب مستحيلة جديدة ستورثها حتما الألم والحسرة لكنها ستشعرها لفترة بأنها أنثى على قيد الحياة!!!

وتوالت بينهما المواعيد, كان الحديث يأخذهما غلى أماكن بعيدة دون أن يغوصا يوما في خصوصياتهما وكأن ما قالاه في لقائهما الأول كان كافيا ليتعارفا وكان كل ما سواه أكثر من كاف ليتحابا! أصبح الشوق يكبر بينهما يوما بعد يوم والشغف يتحول إلى حاجة ملحة للرؤية والكلام والتواصل بأي شكل من الأشكال... وكان هو يحس بالحياة تدب في قلبه للمرة الأولى وتفتّحت هي في داخله كزهرة بيضاء تعبق برائحة زكية ملأت عليه حياته وتسربت إلى كل تفاصيله! أصبح يبحث عنها في كل الزوايا ويتمنى رؤيتها في كل لحظة... كانت هي من ينتظره دائما بنفس الحماس, بنفس الابتسامة, بنفس الحنان... كانت تظن أنها وحيدة في مشاعرها وكان يود لو يقول لها كيف يعصر الشوق إليها قلبه كل يوم ألف مرة, كيف يود في كل مرة يجدها في انتظاره لو يضمها إلى صدره ويشكرها على السعادة التي ما كان ليحس بها يوما لولاها, لولا هذه الضحكة التي أضاءت قلبه وهذا الحماس الذي توقد له فكرُه وهذا الاحترام الذي أشعره بأنه أهم الرجال على الإطلاق...

ثم طريقتها في الإنصات إليه وكأن كل خلاياها تحاول أن تختزن كلماته وعيناها لا تفارقان ملامح وجهه, تنتقلان بحنان أمومي بين عينيه وشفتيه والغمازتين اللتين تزينان وجهه كلما ابتسم... وصدقُها في كل كلماتها وسكناتها وكأن لا شيء يهمها سواه ولا شيء يخيفها سوى غيابه ولا شيء تطمح إليه سوى البقاء إلى جانبه... لم يكن لديها أية مآرب أخرى وكان في كل يوم يتلمّس سُمُوّها وأمانتها فيسمو هو نفسه بمشاعره وأفكاره وينأى بقلبه عما سواها فلم تعد تهمه النظرات المتطفلة ولا وضعه الاجتماعي ولا فرق السن بينهما ولا أي شيء يمكن أن ينغّص عليه هذه النسائم التي تدغدغ كيانه كلما كان معها! حتى جسده قمعه بكثير من الحزم والقسوة وكان يكابد كل المشاق لئلا تتجلى رغبته الدفينة في أن يحضنها ويقبل كل شيء فيها ويجتاحها بجسد لم يعرف الحب الشغوف قبلها ولن يعرفه بعدها!

كان يخشى عليها من نفسه ومن توقد مشاعره فقد كانت رقيقة كغلالة حريرية يمكن أن تمزقها نسمة عابرة أو لمسة عابثة أو حتى نظرة مشتعلة... كانت ثقته فيها بلا حدود فقد كان يعلم انها تحبه بقلب طفلة وأن جسدها لم يتفتح بعدُ لرجل وأنها لن تطلب أكثر من هذا الحب ولن تسمح بأقل منه! كانت تعلم بالتحديد ماذا تريد ولم يكن هو قادرا على قناعتها وتزهدها فحبها بدا يكبر في قلبه يوما بعد يوم وبدأت مشاعره تتمرد على عقله وتدفعه دفعا إلى ما لم يكن يتصور يوما أنه قد يفعله أو حتى يفكر فيه... بدأ يُجَنُّ بها وأصبح حُمق العاشقين منتهى حكمته! بدأ يحسّ أن رائحتها تفوح منه وأنّ نظراتها تسكن عينيه وضحكتها تأخذ مكانها على شفتيه وصوتها يتكلم على لسانه...

في البداية خدع نفسه قائلا أنه يحبها لأنها تحبه ثم ها قد أصبح يحبها لتحبّه أكثر! حمّله جنونه أكثر ممّا يحتمل وأصبح الشوق إليها أكبر من أن يتجاهله واستحالة علاقتهما أمرُّ من أن يعيش بها لذلك قرّر وحده فجأة أن يستأصلها من قلبه وأن يدرّب نفسه على التعايش مع حبها أوّلا ثم العيش بدونه أخيرا... كان يعلم أو يظنّ أنه يعلم حجم الألم الذي سيسبِّبُه لها ولكنّه اعتبر الأمر كعملية جراحية لا مفرّ منها على طريق الشفاء... الشفاء لكليهما... الموت لقلبه العجوز المرهق ولجسده البارد المتشقّق والحياة لقلبها الشاب المفعم ولجسدها الدافئ المتفتح...

هذا ما ظنّه لكن ما حصل أنّها ذبلت من الداخل كنبتة اقتُلِعت من جذورها ورُمِيت في عرض الصحراء... لم يدّخِر جهدا ليؤلمها ويُهينها ويقتل حبّه في قلبها بلا مبالاة وبرود لا معقولين... تنامت القسوة في قلبه يوما بعد يوم وكأنه كان ينتقم منها من أجل كلّ لحظة سعادة عاشها معها, كلّ ليلة قضاها من دونها, كلّ فرحة أو محنة لم تشاركه فيها, كلّ نبضة قلب أحبّتها!

أصبح رجلا آخر غير الذي أحبّته لكنها ظلت هائمة به وعجزت عن إقناع نفسها بموته لأن طيفه ظلّ يطاردها ويذكّرها بحبيب الأمس البعيد... الحبيب الذي نسيها لأنه حصل على منصب جديد ومكتب جديد ولقب جديد ولم تعد ببساطتها وبراءتها وحبّها الكبير الساذج تليق بوضعه الجديد!!!!

هناك تعليقان (2):

الحلاج الكافي يقول...

حبك الفصة جيّد و مشوق... النهاية لا تدل إطلاقا على أنه كان يحبّها بدرجة حبّها له... الحب غير طبقي و لا يؤمن بالاعمار...حبّه لها كان مزاجيا و عابرا لذلك كانت النهاية مأسوية بالنسبة لها... كم تستحق من الوقت للعلاج؟؟؟ البرء ممكن و لو بعد حين...

شكرا على متعة القراءة لك...

CHAMS AL ASSIL يقول...

شكرا على متعة قراءة تعليق من الحلاج! خاصة حين ياتي في لحظة تضيق بي فيها الدنيا بما رحبت!